فن وثقافة

قيود زمن كورونا رسالة تشكيلية للفنانة هدى كداري

إعداد : الأستاذ عبدالإلاه المهدبة

منذ ظهور فيروس كورونا المستجدّ ” كوفيد 19 ” عبر مختلف دول العالم ، و مع تزايد سرعة إنتشاره بشكل  كبير داخل أوساط المجتمعات الإنسانية ، وما أحدثه من تغييرات جذرية مباغتة و مفاجئة للحياة الكونية ككل ، بحيث تغير واقع وضع الإنسان في الوجود لعدة أسباب مادية و معنوية و نفسية و صحية ، وهو ما أدى بالبشرية عامة لخوض غمار مسار إختبار المواجهة مع تحديات وباء عابر لمختلق بقاع المعمور .

من هذا المنطلق لم يتردد الفنانون المشتغلون عبر المجالات الإبداعية و خاصة الفن التشكيلي في خلق أعمال فنية معبرة عن هذا الوضع الصحي الجديد من خلالها إهتموا بطرح تساؤلاتٍ حول التغيرات و التحولات التي أفرزها ظهور هاته الجائحة الفيروسية و تأثيراتها على صحة الفرد و و المجتمع ، لا سيما و أن التاريخ البشري عرف فيما مضى مرور عدد من الأوبئة المختلفة عبر مر الزمن لكن هذا الوباء لم يسبق له مثيل نظرا لطبيعته و نوعيته الخاصة .

في هذا السياق تأتي المساهمة الإبداعية للفنانة المغربية التشكيلية المتألقة هدى كداري حول أزمة كوفيد 19 إذ سطعت تساؤلاتها الجوهرية من صميم حسها الفني بحيث إستطاعت إبداع لوحة تشكيلية معبرة عن جائحة وباء كورونا و مخلفاته وتأثيراته المتنوعة على الواقع الإنساني بلغة فسيفساء اللون والمشهد و الصورة أكثر دقة و موضوعية لذلك سنعرج على خباياها و أسرارها المكنوزة في شريان الرؤى الهندسية المشكلة لباطن و ظاهر اللوحة موضوع تأملنا ، و التي إخترنا لها عنوان ” قيود زمن كورونا ” .

فإذا كان « الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية »، كما قال بابلو بيكاسو، فماذا يمكن أن يفعل « الفن في زمن كورونا »؟… سؤال نجد الجواب عنه متضمنا في لوحة الفنانة المبدعة هدى كداري التي أرادت من خلال لوحتها التشكيلية محاكاة هذا المقولة ذات فيض من المعنى في مسعى منها لمسح غبار أزمة كورونا على واقع حياة عامة الناس، وذلك من خلال تأملات ذات زخرفات هندسية هادفة و حاملة لأسرار الجمال المبدع إذ تسافر بنا  في عملها الفني هذا عبر جزر مشهدية و تصويرية حاولت فيها رسم واقع القيود التي فرضها تفشي فيروس كورونا على الوضع الإنساني لكن بشكل بعيد عن السلبية – التشاؤمية و أقرب للتفاؤل و الإيجابية في محاولة منها لإبراز أن هذا الفيروس مواجهته و القضاء عليه مسألة ممكنة إذا ما تعاملنا معه بحكمة و رزانة الوعي بدل الهلع و الخوف من الموت  ، مادام الموت أمر حتمي غير مرتبط تحديدا فقط بأزمة هذا الوباء ،وأن المشكل الحقيقي الذي غير واقع الحياة البشرية هو أننا نعيش أزمة تفكير في كيفية مواجهة جائحة كورونا .

هذا العمل الفني يحتوي عمق الإبداع في تصوير أزمة ” كوفيد 19 ” في بعدها المؤثر على البشرية إذ نجحت الفنانة هدى في تفريغ شحنة أحاسيسها النفسية من خلال تركيزها على توزيع مشاهد اللوحة في فضاء يختزل أزمة قيود غير متوقعة فرضت على حياة البشر نتيجة صدمة إنتشار الوباء بشكل ملفت الأمر الذي جعل مشهد بداية التصوير الفني يعكس حضور القلق و التوثر و الإضطراب داخل منظومة الوجود البشري هذا الوضع خلق معه إرتباكا و غاب من خلاله منطق التفكير لدى كل مكونات المجتمع في كيفية مواجهة الأزمة ، و يتجلى ذلك في مشهد على مستوى جانب – أسفل اللوحة إذ تظهر أيادي بشرية وهي تحاول التمسك بالحياة مقاومة قسوة الفيروس رغم قيوده التي تحد من حرية الفرد داخل المجتمع ، مشهد آخر من هذه المشاهد المميزة في اللوحة حيث تتجسد صورة لأحد مكونات المجتمع الصحي – تحيل على الطاقم الطبي و هي طبيبة أو ممرضة تضع كمامة واقية من الوباء تبدو في قمة الذهول و الحيرة و اللوعة لكنها تظهر إستعدادها الصمود و التحدي في وجه الفيروس مما يعني حسب الفنانة هدى تقديرها للدور الكبير الذي يلعبه القطاع الصحي في إنقاد الأرواح البشرية بإستمرار و خاصة في مرحلة الطوارىء الصحية ، لتختزل بذلك اللوحة تفاصيل بحث الإنسان و مغامرته من أجل طوق النجاة رغم الأزمة الصحية التي ألمت به لأن المتعارف عليه في المجتمع الإنساني أنه مادام هناك أمل فهناك حياة متجددة .

هكذا حاولت الفنانة هدى كداري تجسيد مجموعة من الأفكار عبرت بواسطتها و بجلاء عن تأثيرات هاته الظاهرة الفيروسية على مسار الحياة الفردية والمجتمعية بمقاطع فنية مركبة بشكل هندسي متناسق و متراص تتخد شكل مربعات كل مربع بصور تعكس واقع هذا الوضع الجديد إنه رصد حي و مباشر  لحالة معيشية تتنوع بين تحول الإنسان من كائن حر إلى كائن حريته أصبحت محكومة بقيود و شروط وضعت حدا للحركة و الفعل و السلوك و النشاط لدى الإنسان حيث الكل أصبح يعيش على وقع عزلة حياتية غير أنه بإمكانه التحرر منها نسبيا أو مطلقا مادام البشر يمتاز بإيمانه الخالص بالله و ثقته في ذاته و قدرته على التحمل والصبر ضد أي أزمة ممكنة ، و هي نقطة قوة البشرية أي بمثابة بصيص أمل و بر الآمان لدى الكائن البشري ، هدى كداري من خلال لوحتها أرادت أيضا أن تجسد عوالم مشهد مختصر لتأثيرات ” كوفيد 19 ” على الوجود البشري بحس يطغى عليه ما هو مفرح أكثر مما هو مخيف بحيث جسدت في البداية صورة لطاولة خشبية تبعثرت عليها أشياء و عناصر مختلفة دلالة على الارتباك و الإندهاش الذي أصاب وعي الإنسان حول فيروس كورونا، هذا الأمر جعله شارد الذهن غارقا في إبداع حلول لأزمته الصحية ، و كذا صورة لكتاب رمز المقدسات الدينية و كذا إحالة على العلم و المعرفة بمعنى أن الفنانة تستحضر هذه الرمزية إشارة منها إلى أهمية و قيمة البعد الروحي و الثقافي في حياة الإنسان خصوصا في مراحل الشدة و الأزمة و الحاجة إلى أفق أفضل يضمن الراحة و السعادة و الهناء و الإستقرار و الأمن ، وكذلك هناك في اللوحة مشهد لأعين بشرية من وراء حائط  نصفه مغطى بستار تراقب و تشاهد من الوراء الوضع الجديد للحياة كإشارة من الفنانة إلى الوضعية التي مر منها البشر خلال فترة الحجر الصحي كل هذه الصور لها معاني و دلالات أهمها أنه ربما لأن الفنانة هدى بحسها المرهف تريد أن تقول للمتلقي عبر إبداعها ” اللعنة كل اللعنة لهذا الوباء الذي يريد أن يسرق منا كل ما هو جميل في حياتنا  ، لكن نحن البشر نؤمن بإنفراج الأزمة فالأمل في النجاة أمر ممكن و ليس مستحيل” ، و هذا ما يكتنزه ظاهرو باطن اللوحة الفنية للتشكيلية هدى كداري .

هذا دون أن ننسى كون الفنانة هدى كداري عبر لوحتها هاته و من باب الإلتزام المبدع تركت بعض التفاصيل الأكثر تفاؤلا إيمانا منها بالشجاعة و الطموح و الثقة في المستقبل من خلال بصمة لونية و هندسية واضحة عندما رسمت في أعلى اللوحة عصفورا يحمل معه إبتسامة أمل تحيل عليها وقفته الهادئة و نظراته البريئة في إنتظار هطول مطر إنفراج الأزمة و هبوب رياح التغيير و شروق شمس المستقبل .

و بالمتخصر المفيد فهذا العمل الفني لمبدعته التشكيلية هدى الكداري حول أزمة كورونا على يبدو لنا بوضوح أنها حاولت من خلاله إبراز أهمية قدرة و مهارة التفكير و السلوك و التصرف الإيجابي كوعي حقيقي إذا ما تم ربطه بالإيمان الروحي و الذاتي و الإهتمام أيضا بما هو معرفي بإمكانه أن يضخ في دماء البشر عناصر الثقة و الأمل و الطموح و التحدي و الشجاعة و الصبر والحلول لكن بلغة الهدوء و التريث و ليس بلغة الهلع و الإضطراب و الخوف من المجهول كأحد عناصر التخلف و الجهل التي تؤدي حتما إلى الموت الحقيقي للإنسان الفاعل و المبدع و كأن الفنانة هدى تريد أن تكتب لنا رسالة حكمة النجاة من كورونا لتقول فيها للجميع ” الوعي لقاح فعال ضد كورونا  ” .

لتكون بذلك هدى كداري عبر شغفها الجمالي بهندسة الألوان و المشهد و الصور أبدعت سمفونية الوصف و السرد الواقعي وهي تحبك لنا حكايات زمن كورونا بنسيج فعلها وتجربتها في الحياة الفنية مع الريشة و اللون حيث تؤلف حالات من التجريدة التعبيرية و المعنى التلقائي و النظرة الأفقية التكعيبية التي تقول ولا تقول وتكشف كما أنها تحجب. وهنا عين الإبداع الفني في سياقات الحداثة بين ما هو أصيل و متجدد. تماما كالشعر، كالقصائد الممهورة بما تتركه من ارباك وحيرة ودهشة و روعة و جمال مبدع وخلاق و هادف .

هكذا و من بوابة هذا الفن الإنساني النبيل نكون قد إقتحمنا عوالم الفنانة التشكيلية البارعة هدى كداري التي أتحفتنا بألوانها الهندسية نهجا و أسلوبا و دلالة بفصاحة الوصف الدقيق و العناية المركزة بتفاصيل مشهد أزمة الوباء في ظل تأثيراتها على الحياة البشرية بألوان وصور زمن الذبول والذهول نحو زمن الأمل والثقة والإبتسامة من أجل غد أفضل و مشرق . لتقول لنا هدى الكداري في ختام عملها الفني ” القادم أجمل و أسعد ” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى