شذرات من الماضي.

بقلم: أبودينة مصطفى.
كانت أولى خطواتي الى المدرسة مرتبكة خجولة مترددة ، بينما كانت يداي مندستين في جيب بنطلون جديد ، و كانت الطريق مختلفة عما كانت عليه قبل ذلك اليوم ، و قد امتلأت بأناس و أشياء تناثرت هنا و هناك ما كانت لتلفت انتباهي إليها ، و كأن عالمي و مصيري أصبح محصورا في وصولي الى مبنى مهيب قبع داخل ساحة مستديرة في اسفل حي الصفاح ، و كلما اقتربت زادت دقات قلبي الصغير و قد التصقت بأخي في رهبة من موقف مجهول عصيب . كنت لا أحمل شيئا سوى ما ترسخ في ذهني من صور و حكايات عن هذا العالم الجديد .
ما لبثت عيني ان تسمرت على باب مفتوحة على مصراعيها و قد وقف فيها رجل صارم الملامح يمسك عودا اجتث حديثا من شجرة ، ثم أزيل لحاؤه حتى صار ابيض مائلا للصفرة الا من بضع بقع خضراء لم تطلها آلة المشذب ، ثم رفعت رأسي لأجد علما تدلى من عمود حديد و قد فقد لونه و رونقه فصار شاحبا ساكنا لا تكاد تميز حمرته من خضرة النجمة التي تتوسطه ، و خلفه أطلت نوافذ مستطيلة متراصة انعكست على زجاجها أشعة شمس الصباح ، بينما ظهرت من خلال بعض جوانبها أجزاء من ستائر شبه بيضاء تناغمت مع لون الحائط و شحوب الراية و عود الزيتون و قسمات الحارس العابس المهيب.
كنت قد استغرقت في تأملاتي حين انتشلني من ذهولي صوت طفل يصرخ برعب و جزع و قد أصر على التمرد و العصيان ، كانت أمه تمسكه من يده و تجره جرا بينما كان يلتصق بالارض التصاقا جاهرا برفضه للمجيء و كأنه سيقدم قربانا ليذبح في أعتاب هذا الموقف العظيم ، حتى إذا انكشف الزحام عنه و تجلى له الحارس العبوس بجبروته و صوته الكاسر و عوده غير المشذب ، توقف فجأة عن البكاء و امتثل راضخا ثم اندس وسط زملائه و هو يمسح دموعه بكفي يديه و يمرر كم قميصه على انفه حتى ينظفها مما انساب منها من مخاط أخضر ماسكا من الخلف بسرواله القصير الذي كان على وشك السقوط ، و غير آبه ببقع غبار بدت واضحة على ركبتيه و فخديه جراء تمرغه في التراب على طول الطريق غير البعيد.
اتخذت مكاني في صف طويل ، في ساحة واسعة تتوسطها بضع شجيرات و توجد في اقصاها على الجدار نافورة ماء تحلق حولها كثير من الاطفال يرتوون من مائها او يغسلون و جوههم او ربما كان منهم من هو على شاكلتي ليس به عطش او رغبة في ماء انما انطلق يستأنس بالمكان ، لكني لم ابرح موضع قدمي حيث تركني اخي و هنا اذكر انني شممت رائحة عطر لا زالت الى اليوم تذكرني بذلك الموقف كلما تنسمتها من جديد ، رائحة نافذة اعطتني انطباعا خاصا تناسب و شكل معلمي الاول رحمة الله عليه إذ كان رجلا أنيقا زكي الرائحة قوي الشخصية جهوري الصوت كان أول من علمني حروف الكلمات و امسك بيدي و علمني كيفية الغوص في أعماق بحر العلم العميق.
أبودينة مصطفى