حكايَة عِشْق
بقلم : الكاتب والروائي محمد نخال
كانتْ جالسةً على صخرة قُبالَة البحر، تُراقِبُ في تأمُّل حزينٍ مشهدَ غُروب شَمس، اِسْتمدَّتْ حُمرتَها من روْنَقِ شَفتَيها، وهي تخْشى أفُولها حتى لا تنْطفِئ جَدْوَةُ الأمل في قُدُومه بعدَ غِياب قد طال، لا يُكدِّر صفاءَ الوجُود وهدُوءه حولها، غير صرخاتٍ حزينة لنَوْرس تائهٍ تخلَّف عن سِرْبه، وهدِير أمواجٍ منكسرة، لا تمَلُّ ولا تكَلُّ من مُعاكَسة صُخور صامتة أبْلَتْها يد الدَّهر، فبَدَتْ كأشلاء بقايا أطلال هجَرتها السّنين، حينها بدأتْ زخّات المطر تتساقَط على شعْرها، كبلَّوْرات مُتناثِرة على أدِيم القمر، لم تشعُرْ بالبَلَل ولابالملل، تتقاذفُها الذِّكْريات وتتجادبُها المشاعِر المُتنافِرة، تنافُرَ الأفكار الحائِرة في مُخَيِّلة عاشِق أضْناه الهَجْر وهدَّهُ الحرمان، تعيشُ حالة تمَزُّق بين قلْبٍ يعشَقُه وعقْلٍ يحْذَرُه، فأصبحتْ كغصن ليِّنٍ بين مهَبِّ ريح الشّمال وريح الجنوب!
في غفْلة منها، اقتَربَ في هدوء، وضعَ يده على شعْرها المبلّل برقّة وحنان، رفعَتْ رأسها ونظرَتْ إليه في شَوْق وعِتاب، كَوَسْنانٍ أيْقَظَهُ شُعاع شمس الصباح، وقبل أن تنْطِق بكلمة وضع يده على فمها، وعانقَها بكل أشْواق العاشِقين، ففاضَتْ روحها بين دراعيه، وتلاشَتْ مهجَتُها بين أحضانه، فكاد قلبها يَنفْلتُ من بين جَنْبَيْها، وبعْد أن خفَّ هَديرُ زفِيرها، طبَعَ على جَبِينِها قُبْلَةَ مَحَبَّة سرمدية خلْخَلتْ ما تبَقّى من كيانها العليل، ورحلت بها في عوالم الإحساس النبيل، ثم همَسَ في أذنها همس نسيم الصباح في ثغور الياسمين، وقال بصوت يُضَاهِي تغريدة كَرَوان حزين:
سيّدتي، أنا لا أملكُ سواك في هذا الوجود، وبين موْطنِ روحي وروحِكِ تنْتفي كل الحُدود، أنتِ رمزُ مجدي الآتي، أنتِ بحر أحزاني إن غِبتِ، ومنبعُ أفراحي ومسراتي إن حضَرْتِ، أنت عشقي الأبدي ومنبع إلهامي السَّرْمَدي.
قبل أن أعرفك، كانت مشاعري بعيدةً عن القلب، أميلُ إلى الهدْم ميْلي الى البناء، أحْيَى مَلَلا بِلا عنفوان، لا تعرف الفرحة لقلبي عنوانا، وليس في نفسي مجاعةٌ للحب والجمال، ولما رأيتُكِ أول مرة واقفةً أمامي، ضربتْ نظراتُكِ السّحرية على أوتار قلبي فاهتَزتْ، ولما ابتسمتِ في وجهي ابتسامةَ البدر في وجه الثُّريا أدركتُ سِرّ عِشق البلابل للياسمين، ولما نطقتِ، أعاد همْسُكِ على مسامعي في اليقظة ما كانت تسمعه روحي في المنام، حينها هَبَّتْ حياتي من مَراقِدها، ونَشَر ربيع عمري رِداءَ المحبة في كل مكان، ولما نظرتُ في عينيك أيْقَنْتُ أنني دخلتُ دخول الفاتِحين فِردوسَ العِشق الأبدي.
اقتربي، اقتربي أكثر يا حبيبةَ نفسي، عانِقيني قبل أن يُطْبِقَ عليّ الهجْر، ففي عِناقكِ تبُوح لي الطبيعة بكل أسْرارها.
حدثيني بهمْس النّسيم، فقد تعِبَتْ آذاني من زمْجَرة العواصِف والأنْواء.
دعِي نفسي ترتاح تحت ظلال رمُوشك، فقد جعلتُ من جفنَيْك مهْدا، ومن بساتين خديك مَوطنا وملاذا.
أنتِ ناصِري من ظُلم السنين وغَدْر المآسي، فإن خَفَقَ قلبي لغيرك يا حبيبتي فلا طلعَتْ أنفاسي…
نظرتْ إليه نظرةَ عاشقٍ مُتَيَّم ولْهَان، أسْكرَه الهوى بلا مُدَام، وتبسمتْ في وجهه ابتسامةَ ريْحانة ذابلة مُتعطِّشة لقطرات النّدَى، قبل إشراقة شمس ربيع حالم، وقبل أن تنْطقَ، ارتَجَّتْ أرْكانها، فنابَتْ عن لسانها عيْناها الطّافِحَتان بالدّمع، فارتَمَتْ في حُضْنه وقَبَّلتْ عيْنيه، فرشَقَتْهُ بعَبَراتها السّاخنة التي سالتْ على خدَّيْه، وقالتْ متَنهّدَة بصوتِ نايٍ حزين:
ياسيّدي ليْتَني لا أستفيقُ من هذا الحلم الجميل، فأنت تقول كلامكَ المَعْسول وترحَل، وأنا كل ما أعْرفه هو أن ليلي هذا سيَطول ، وأنتَ من بالي لن تَزول، سأنتظر بزوغ الفجر، وأرى إن كان هيْكلك مازال ماثِلا بين أحْضاني، حتّى أصدِّقكَ.