بلاحدودفن وثقافة

شذرات من الماضي

فار بريس / هاشم مصطفى


يوم امس ،وأنا عائد من إحدى جولاتي بالمدينة القديمة مررت بباب صغير هو أشبه إلى نافذة طويلة منه من باب ،لونه أحمر أو بني أو ربما كان لونا آخر رسم الزمن على صفحاته المهترئة تجاعيد داكنة،و بجانبه انتصبت نافذاتان لا يختلف لونهما كثيرا و ان كانتا اكثر ارتفاعا عن مستوى الارض.كان الوقت أصيلا و الشمس مجدة في انهاء رحلة النهار حتى بدت أشعتها باهتة و قد انعكست على جدران البيوت القديمة و المآذن والقبب؛ كان الزقاق ضيقا ليس كعهدي به في القدم،كل المساحات كانت تبدو أكبر و نحن صغار ، حتى ان باب الكتاب هذا كان أعلى و أوسع،هذا المسيد المتواجد بحي القواس ظل محفورا بذاكرتي طول الحياة ، كيف لا و قد كان أول عهدي بعالم الجد و -المعقول–. هنا لا يقبل لعب و لا مزاح و لا دلال.
رافقني أبي-رحمه الله- و لازلت أذكر أنه كان يوم أربعاء وهو اليوم الذي يأخذ فيه” السي” -أعطيته- التي كانت عبارة عن قطع من سكر القالب و قطعة نقدية بقيمة عشرين ريالا سلمني أبي ل “” السي”” و أوصاه بي “خيرا “و قفل راجعا تاركا إياي في مكان مختلف موحش غريب .
كان هذا المسيد عبارة عن حجرة أرضية مفروشة بحصير من الدوم حيث يجلس الاطفال بينما يستوي “السي” فوق “دكانة” مرتفعة مرتديا جلبابين يغطي قب أحدهما رأسه و له لحية بيضاء و بجانبه اصطفت مصاحف و كتب صفراء كانت تنتابني رهبة شديدة لمجرد النظر اليها او الى صاحبها الموقر ، أخذت مكاني وسط الصبية ومع مرور الوقت استطعت تكوين علاقات وصداقات سهلت اندماجي في هذا العالم الجديد.
كانت قواعد اللعبة تقتضي ان ترفع صوتك عاليا عندما يفعل الجميع ذلك استظهارا أو ترديدا ثم احذر ان يراك ” السي”تعبث او تلعب او تتحدث الى زميل فقد تأتيك الضربة الخاطفة من حيث لا تدري و كان عليك أيضا ان تتودد من حين لآخر الى جلاد السي و هو غلام غالبا ما يكون أكبر حجما اختاره الفقيه من اجل مساعدته في خلق النظام داخل المسيد بأن تعطيه قطعة من الحلوى او الطباشير الا ان عقاب الفقيه كان يطال الجميع ،نعم ، فلا أحد هنا فوق القانون. ولطالما سعدناو نحن نرى السي ينال من مساعده فنضحك في أعماقنا لكننا نبدي كثيرا من التأسف والنفاق خوفا من بطش الغلام الكبير.لم يكن السي يجد عناء في توجيه ضربات خاطفة و كانت اسلحته لا تخطأ هدفها إذ كانت له مجموعة من العصي يستعمل المناسب منها حسب المسافة اللازمة فمنها الطويلة التي تصل الى أقصى الغرفة و منها الأقصر و هكذا…
ومما كان يثير انتباهي وفضولي قدوم نساء بجلابيبهن و ألتمثهن يجلسن الى جانب فقيهنا الذي يخرج قصبا و مدادا ثم يشرع في الكتابة على الورق و هن يتطلعن اليه بريبة و كأن على رؤوسهن الطير بينما كنت انا اراقب المشهد متسائلا ان كان هؤلاء النسوة يأتين الى السي لكي يعلمهن و يكتب لهن كلمات و حروف في الورق مثل مايكتب لنا في الالواح. و كانت هذه اللحظات متنفسا للصبية الذين يغوصون في فوضى عارمة لا تنتهي الا بخروج الضيوف بعد ان قضى فقيهنا حاجتهن التي جئن من أجلها.
ربما لم أتعلم حرفا واحدا طيلة مكوثي في هذا المسيد العجيب الا انه من المؤكد ان تلك المرحلة كانت مؤثرة و نافعة بشكل كبير في تهيئتي لدخول عالم أرحب و أعجب في رحلة التعليم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى