– تْرَمْضِينَة –
بقلم الكاتب والروائي محمد نخال
الجزء الأول:
كان “جَلُّول” أو “جْوَيْلِيلِي” -كما يَحْلُو لِزَوْجَتِه “الضَّاوْيَة” تسْمِيتَه عندما تَضِيقُ به دِرْعا-، مَعْرُوفا في أوْسَاط العائلة والجيران، بعَرْبدَتِه وخُسْرانه المُبين خِلال شَهْر رمَضان، إذ يفْقِدُ البَوْصلة، وتجْتاحُ غِشاوَةٌ عيْنيْه، فيُصْبحُ من الصّعْب عليه أن يَرى أحَد عَشر راكِبا على بَغْل، بسَبب تَأثِير نَقْص “النِّيكُوتِين” على اشْتِغال خَلايا مُخِّه، لذلك كان يبْدأ في عمَلية تَحْضير “لَكْوَيْفَة” مُبَكّرا، بالتّزامُنِ مع تحْضِيرَات زوْجَتِه لوَجْبَة الإفْطار، إذْ يأخُدُ لَه زَاوِيَةً مُقابِلَة لها فِي المَطبخ، يَرْكَنُ إليها، مُدَجَّجا بعَتادِه وعُدّتِه اللاّزمة لبداية السّهرة، وكأنه في قاعَة المسْرح، جالسٌ في الصَّف الأمامِي، لمُتابَعة أطْوار فُصُول مسْرَحِية شَيّقة، فهُو لا تَحْلُو له عَمَليّة التّحْضير، إلّا وهُو يُتابِع عن كَتَبٍ، حَرَكاتِ زوْجَته وسَكَناتِها، ليَبْدَأ في مُمارسَة نَشْوَتِه، بقَصْفِها من كل الاتّجاهات، وبكُل الذّخائِر الحَيّة، أحْيانا بألفاظٍ لاذِعة، يهْجُو فيها طَريقة تَحَرّكِها، وأحْيانا يَسْخَرُ من شَكْل جَسَدها، الذي فَقَدَ كُل مَعالمِه الهنْدسية، وتَحَوّل إلى شِبْه كِيسٍ من الدّقيق.
كانتِ المِسْكِينَة، تَكْتَفي غالِبا بالرَدِّ عليْه، -وهي تُقاوِمُ بِكُمِّ مِعْطَفِها سَيْلَ دُمُوع جارِفٍ، نتَجَ عن عمَلية تقْطِيع البَصَل، وامْتَزَج بِمَخْرُوط أنْفِها ودُونَ الالْتِفات إليه تقُول ناحِبَة: “الله يَعْفُو عليك”.
بينَما كان هو يُجِيبُها بِعَيْنَيْن جاحِظتَيْن تُقاوِمان تأثِير مَفْعُول التّدخِين، وبشَفَتَيْن لم يَعُد يَتَحَكَّم فيهما، وكأنه واقعٌ تحتَ تأثِيرِ عمَلية تَخْدِير، فتَخْرُج كلماتُه مُتَرَاخِية مُبَعْثَرة ليقول: “وهَل ضَبَطْتِ يَدِي في جَيْبِ أبيك “المَعْطي” حتّى تَسْألِينَ لي العَفْوَ”!
كانت المسْكينة ترفَعُ يَديْها إلى السّماء شاكِيَة باكِيَة وتقول: ربّي، السّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ من العيْشِ مع هذا المتْعُوس. وكم حَدَّثَتْها نفْسُها مرّاتٍ عَديدة، بإفْراغ كل مُحْتَوَيات طَنْجَرة الحَسَاء على رأسِه، لتَتخَلّصَ منه نِهائيا، ولكنّها كانتْ تَخْشَى ضَيَاع أبْنائِها، فتَلْعَنُ الشّيطان، وتسْتَحْضِر الإيمان، وتَضعُ قِطعَة قُطن في أذُنَيها، لتَسْتَمر في أشْغالها، دون الاكْتِراثِ لشَطحَاته. فهُو لم يسْتَوْعِب الدّرس جيّدا، فنُذُوبُ آثار المِقْلاة، لا زالتْ محْفُورةً على أمِّ رأسِه، إذ حَدَثَ مرّة أن اسْتَفَزّها، وبعد أن نَفَذَ صَبرُها، هَوَتْ عليه بمِقْلاة، كانتْ تُهَيُؤها لإعْداد وجْبَة بالبَيْض والطّماطِم، فانْهَمَر سيْلٌ جارِفٌ من الدّم على وجْهه، فحَجَبَ عنه الرُّؤيَة، واخْتَلط بمَزيجِ طبْخَة البَيْض، فحَسِبَهُ قِطْعة من مُخِّه قد خرجَتْ من جُمْجُمَتِه، التي لم تَعُدْ فيها بُقْعَة صالحَةٌ، لكثْرَة النُتُوءات التي تَنْعَمُ بها.
ارْتَعَبَ المتْعُوس، وخَرج إلى الزّقاق مُهَرْوِلا، مُوَلْوِلا، يتَعَثَّر في أطْراف جِلْبابه، يَصْرُخ بأعْلى صَوْته طالبا النّجْدة، وينْزِفُ كالثّوْر المَذْبُوح، فخرجتْ نِسْوَةٌ من الحَيّ، كُنّ مُجْتمعاتٍ يتَجاذَبْن أطرافَ حديثٍ شيّقٍ، في وصْلة نَمِيمَة رائِقَة، فأشفَقْن منه، وأقَمَنَ عليه مأثَما. ولِحُسْن حَظّه، صادَفَ حَفْلَ تأبِينِه، مُرُورُ لَفِيفٍ من الرّجال، كانُوا عائِدين لثَوِّهِم من المَسْجد، فأقْبَلوا عليه على عَجَل، وحَمَلُوه كالشّاة الدّبِيحة إلى سَقّاية الحَيّ، هناك غَسَلُوا دَمه، وملأُوا فُوهَة جُرْحِه الغَائِر، بقَليل من بُذْرَة مسْحُوق الفُلْفُل الأحْمر، جادَ بها عَليه عَطّارُ الحَيّ، ولمّا اسْتَرْجَع أنْفاسه، وتَأكَّد بأن مُخّه سالمٌ مُعافى، سَألوه عن سبَب مُصِيبَته، فزعَمَ بأنّه تَدَحْرَج من أعْلى دُرْجِ السُّلّم، حتى لا يَنْفَضِحَ أمْرُه، ويُصبحَ مَعَرَّة بيْن الجِيران. قال هذا، وهو لا يَعْلمُ بأنّه ومِنْ حيْث لا يدْري، أقام عليه الحُجّة، بأن أسْقَطَ أحَقِيّة مُتابَعَتِه ل”الضّاوْيَة” جِنائِيا….. (يتبع)