جوَيليلي والشِّيخات
بقلم : الكاتب والروائي محمد نخال
كان “جْوَيْليلي” من هُواة الطَّرب الشَّعبي الأصيل مُدْمِنا مُتَيَّما، هائِما بفَنّ العَيْطة، يَتَلَذَّذ بِسماعِها، ويَتَفَنَّن في عَزْفها، يَملكُ العَديد منَ الأسْطوانات والأشْرِطة، ِلِرُوَاد ورائِدات هذا التُّراث الشَّعْبي الأصيل، القُدامَى مِنْهم والجُدُد: كعازِف الكَمان المُتَمَيّز “المارِيشال قِبُّو”، و “بُوشْعيْب البَيْضاوي”، رائِدُ المَرْسَاوي، والشِّيخ “الدَّعْبَاجِي”، عَميدُ العَيْطة الحَصْباوِيَة، ورَفيقَتُه الشّيخَة “عايْدَة”، والشِّيخة “رابْحَة بنْتْ لَغْزَيْوِيني، والشيخ زْرَيْوِيل”، والشّيخة الثّائِرة “الغالِيَة”، أيْقُونَة وادي زَم، والتّي كانتْ تَعْشَق هذه المَدينة، وتُلَقِّبُها غَيْرَةً ب”لَبْزَيْزِيلَة المَحْلَوبَة” -وقد كانتْ هذه الشِّيخَة، تقُود فِرْقَة مُوسيقية، إذا بدأتْ في العَزْف والرَّقْص، أحْسَسْتَ وكأنَّك أمام مَشْهد، يُجَسِّدُ حربَ التَّحْرير، إذْ تبْدَأ رائِعَتَها “مَّالِينْ الخَيْل”، بإيقاعٍ بطيءٍ، يُخَيَّل لسامِعِه، وكأنّها حَركات اسْتِعْراضِيَة، لفِرْقة عَسْكَريَّة، حيثُ تَبْدُو طَقْطَقاتُ “التَّعارِج”، وكأنَّها طلقاتُ رصاصٍ للمُعْتَدي، لحْظة إعْدام المُجاهِدين، وضَرباتُ “البَنادير” وكأنّها جَلْدٌ مُبرح، بالسِّياط للمُقاومين، ثم يَتَصاعد الإيقاعُ، وكأنّها حَركاتُ انْطلاقٍ لخَيلٍ جامِحَة، تَدُكُّ بحَوافِرها حَصْباء الوَادي، مُغِيرةً على الأعْداء، أمّا “الشِّيخات”، فكُنّ يَتَحَلَّقْن في شَكلٍ دائِري، ويبْدَأْن في تحْريكِ الأيادي، تَصاعُدا من الأسْفل إلى الأعْلى، كإشارة إلى لطْمِ الخُدُود ونَدْبِها، كلُّ ذلك في تَناغُم حَزين، يُجَسِّدُ حَلقَة النّائِحات، حول “المُعَدِّدَة”، عنْد كل مأتَمٍ، فقَدْن فيه عَزيزا.
كما كانتْ لذَيْه أشْرِطةٌ كثِيرة، لكُلّ من “فاطْنَة بنْتْ الحُسَيْن، سُلْطانَة العَيْطَة مع أولادْ بنْ عْكِيدَة”، و”الحَمُّونِيَة” التي ظلَّتْ (مْقابْلَة لَبْحَرْ لا يَرْحَلْ)، و”خَديجة مَرْكُوم ووَلدْ الصُّوبَّا”، كما كان دُولابُه يَضُمُّ بعضا من الأسْطُوانات، لِرُواد ورائِدات الفَنّ الأمازيغي، ك”حادَّة أُوعَكِّي”، و”فاطمة تِحيحَتْ”، و”محمد رْوِيشَة” و”بَنَّاصَرْ وَخُويا”، وأخرى لِرُواد الطَقْطوقَة الجَبَلِيَّة ك”محمد لَعْرُوسي”، والشَّيخ “محمد الكُرْفْطي”، والشيخ “حاجِّي السَريفي”.
لكن جْوَيْليلي كان مَثَلُه الأعْلى في فَنّ العَيْطة، هو “وَلدْ امْبارَك لَخْرِيبْكي”، وقُدْوَتُه المُثْلَى، “مُوتْشُو زْعَيْر”، إذ كان كلَّما سَمِع عن حَفْلة أو عُرْس، سَيُحْيِيها هذا المُطرِب أو ذاكَ، إلَّا ولَبَّى النِّداء دُون تَرَدُّد، ولمْ يكُنْ إعْجابُه يَقْتَصِر على هَذين المُطْربَيْن فقط، بل غالبا ما كان يُسافِر إلى بَنِي مَلَّال، لِحُضُور عُرْسٍ يُحْيِيه “ولد المَخْرُوط”، زعيم “العَيْطَة المَلَّالِيّة”، وقد حَدَثَ مَرَّة أن لَعِبَتِ الخَمْرة برأسه، وفي ذِرْوَة النَّشاط، رَمَى بِجِلْبابِه أرْضا، وقام يُشارِك الفِرقة في الغِناء، وأنْشَد يقول:
طْريقْ المَلاَّليّة بَيْنْ عَيْنَيَّ
الزِّينْ ولَهْبالْ في بْنِي مَلَّالْ
الْغادِي لْبْني مَلَّالْ دِيرْنِي في البَالْ
عَيْنْ أسَرْدُونْ سَالْبَة لَعْيُونْ
ولِجُنُونه بفَنّ العَيْطَة، كان يُعَرِّجُ أحْيانا على مَدينة الفَقِيه بن صَالح، إن كان هُناك حَفْل، يُحْيِيه الشِّيخ “سَاطْسَا”، ومُرافِقَتُه الأزَلية “الشِّيخَة مُولُودَة”، صاحِبةُ الحُنْجُرة الذَّهبِيّة…. (يتبع).