فاربريس
في هذا المحفل الروحي، الذي تشع فيه أجواء الإيمان ووحدة أبناء سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، أستهل مداخلتي الافتتاحية بآيتين من القرآن الكريم تدعوان إلى المحبة والألفة والتعايش بين بني البشر:
تقول الآية الأولى “يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”
وتقول الآية الثانية” لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما أتاكم، فاستبقوا الخيرات ” صدق الله العظيم.
في هذه الليلة الظلماء، جعلنا شمس التجلي تشرق علينا جميعا، مضيئة طريقنا نحو الخير والصلاح، راسمة أمامنا أملا كبيرا في مستقبل أفضل للإنسانية جمعاء.
سعادتي اليوم، كما أنتم، لا تسعها كل الفضاءات مهما كانت رحبة. أشعر اليوم، كما أنتم، باعتزاز وفخر كبيرين بانتمائي إلى هذه التربة الطيبة الأصيلة: مغرب الوفاق والتسامح والعيش المشترك، مغرب إمارة المؤمنين، المؤسسة الضامنة للوحدة الوطنية وممارسة الشعائر بالنسبة لكل معتنقي الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة.
فباسم الحركة الشعبية وباسم أكاديمية لحسن اليوسي، أرحب بكم جميعا في هذا الندوة الفكرية الرمضانية حول موضوع” الأمن الروحي والأزمة الاجتماعية”، متوجها بعبارات الشكر والامتنان إلى القامات الدينية والفكرية التي تجاوبت بكل أريحية مع دعوتنا لتأطير فعاليات هذه الندوة، وأخص بالذكر:
- سماحة الكاردينال كريستوبال لوبيز روميرو، أسقف أبرشية الرباط؛
- سماحة الرابي ليفي بانون مدير مؤسسة “CHABAD HOUSE” بالدار البيضاء الذي تعذر عليه الحضور بسبب تزامن لقاء اليوم مع الاحتفال بعيد “ميمونة”، ويسعدنا أن نستضيف عن بعد من باريس السيد سيمون سكيرا، الكاتب العام للفيدرالية الفرنسية للمغاربة اليهود}
- الأستاذ عبد الوهاب الفيلالي الباحث في التصوف والأدب المغربي والأندلسي، عن الطريقة البوتشيشية، في حين سيكون لنا موعد مع كلمة الدكتور مولاي منير القادري، رئيس مؤسسة الملتقي من مدينة باريس؛
- الأستاذ الألمعي محمد عبد الوهاب رفيقي، المفكر والباحث في الدراسات الإسلامية.
- كما أتوجه بالشكر إلى الفريق المتكامل الذي هيأ لهذا اللقاء، مهنئا إياه على حسن اختيار الموضوع “الأمن الروحي والأزمة الاجتماعية”.
الحضور الكريم؛
يأتي لقاؤنا هذا في ظل سياق عالمي على درجة كبيرة من الدقة والتعقيد، بحكم التحولات المتسارعة التي يعرفها العالم على أكثر من صعيد، والتي كانت لها انعكاسات على أنماط العيش وعلى التصورات المرتبطة بالحياة، وقد تسببت الأزمات الاقتصادية والحروب والصراعات المسلحة وظاهرة التعصب والتطرف في تعميق الإحساس بالقلق والتوتر وعدم الارتياح، ذلكم الإحساس الذي يتمثل في عدم الشعور بالأمان وفقدان الأمل ، وما نتج وينتج عن ذلك من تفشي للجريمة وتزايد لحالات الاكتئاب والانتحار، مما يطرح إشكالية مرتبطة بالقيم.
من هنا تطرح مسؤولية الأديان في إعادة ضبط البوصلة، من خلال الاضطلاع بدورها في المساهمة في حل إشكاليات العصر.
وفي هذا الباب، كلنا مطمئنون في المغرب للاختيارات التي تبنتها المملكة في المجال الديني، وهي اختيارات وفية لتاريخ بلادنا العريق، ولموقعها الاستراتيجي كملتقى للحضارات تتلاقح فيه الثقافات وتتعايش فيه الأديان والمعتقدات.
هنا في السياق ذاته، نذكر بالدور الجوهري لمؤسسة إمارة المؤمنين في ترسيخ الانفتاح والتعايش والتسامح، وإبراز دور الديانات في الحفاظ على السلم والأمن في العالم.
واستحضر فقرات من الخطاب السامي الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس نصره الله أيده، بمناسبة زيارة قداسة البابا فرانسيس إلى المغرب في شهر مارس 2019، حيث قال جلالته:
“بصفتي ملك المغرب، وأمير المؤمنين، فإنني مؤتمن على ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية. وأنا بذلك أمير جميع المؤمنين، على اختلاف دياناتهم.
وبهذه الصفة، لا يمكنني الحديث عن أرض الإسلام، وكأنه لا وجود هنا لغير المسلمين. فأنا الضامن لحرية ممارسة الديانات السماوية.وأنا المؤتمن على حماية اليهود المغاربة، والمسيحيين القادمين من الدول الأخرى، الذين يعيشون في المغرب”. انتهى المنطوق الملكي السامي.
السيدات والسادة الأفاضل؛
في ظل هذه الاختيارات والتوجهات الثابتة للمغرب، نجتمع اليوم، مسلمين ويهودا ومسيحيين، لنقدم مرة أخرى الصورة الحقيقية للمغرب.
كمسلمين مغاربة، وهذه حقيقة تاريخية، اعتنقنا هذا الدين بمنطق الاقتناع، وكنا على مدى القرون مدافعين عن مبادئه السمحة بعيدا عن كل أشكال التطرف والانغلاق، مناصرين لآل البيت المنحدرين من الدوحة النبوية الشريفة منذ مولاي إدريس الأكبر إلى محمد السادس نصره الله، حريصين على احترام كل معتنقي الأديان السماوية الأخرى، وهذا ما تشهد به الوقائع التاريخية.
هذا وقد اضطلع التصوف بدور أساسي في الحياة الروحية والاجتماعية للمغاربة، في استناد إلى المذهب السني المالكي والعقيدة الأشعرية كخصوصية تحدد الهوية الدينية للأمة المغربية، مع نبذ لكل الميول المتطرفة التي غزت الحقل الديني وشوهت الصورة الحقيقية المشرقة للإسلام.
وستكون لنا فرصة الإصغاء في هذا المحور إلى مداخلتي كل من الأستاذ عبد الوهاب الفيلالي، والأستاذ محمد عبد الوهاب رفيقي.
أما بالنسبة لواقع الديانة اليهودية بالمغرب، فلست بحاجة إلى التذكير بقدم التواجد اليهودي ببلادنا والذي يعود إلى ما يزيد عن ألفي سنة، إذ شكل المغاربة اليهود عنصرا أساسيا في المجتمع المغربي، بما يجعل مكانتهم ثابتة في تاريخ بلادنا، وهو الأمر الذي يجسد نموذجا مثاليا ومتميزا في التعايش بين الأعراق والديانات.
وما يميز المغاربة اليهود عن باقي نظرائهم في البلدان الإسلامية الأخرى، كونهم ظلوا، على الرغم من واقع الهجرة والشتات، مرتبطين بانتمائهم الأصلي، متشبثين بالعادات المغربية في حياتهم، أوفياء للعرش العلوي المجيد، مستحضرين على وجه الخصوص الموقف الشجاع لجلالة المغفور له محمد الخامس الذي واجه المخطط النازي لتسليم واضطهاد اليهود في عهد حكومة فيشي الفاشية بفرنسا.
ونحن كمغاربة مسلمين، معتزون بإخواننا من الديانة اليهودية، الذين نبارك لهم عيد”ميمونة”، مستحضرين عطاءاتهم وأعلامهم الذين ساهموا ويساهمون في خدمة البلاد ونشر إشعاعها وثقافتها المتعددة الروافد، من أمثال المستشار الملكي السيد أندري أزولاي، والسيد سيرج بيرديغو، والمرحوم الدكتور ليون بنزاكين الذي كان وزيرا في أول حكومة مغربية بعد الاستقلال، والبرلماني السابق جو يوحنا، والكاتب الراحل إدموند عمران المالح، والمفكر والسياسي الراحل شمعون ليفي، والفاعل الاقتصادي السيد دافيد طوليدانو، علاوة على الفنان المغربي القح جاد المالح الذي يستنشق المغرب حبا وتعلقا أينما حل وارتحل فخورا بجواز سفره الأخضر.
وستكون شهادة السيد سيمون سكيرا أكثر إفادة في هذا المحور.
الحضور الكريم؛
بالنسبة للتواجد المسيحي بالمغرب، فإنه يكتسي طابعا خاصا، أولا بحكم عوامل الجغرافيا والقرب من القارة الأوربية التي تعرف انتشارا أكبر للديانة المسيحية، علاوة على تعزيز الحضور الأوربي بالمغرب بأشقائنا الأفارقة من بلدان الساحل وجنوب الصحراء.
وحسب علمي، وأتحدث هنا تحت رقابة سماحة الكاردينال لوبيز روميرو، يتجاوز عدد الكنائس بالمغرب أكثر من 40 كنيسة، تمارس فيها الطقوس بكل حرية وأمان. وأستغل المناسبة لتقديم التهاني للأشقاء المسيحيين بمناسبة أيام الفصح المجيد.
في هذا المحور، أريد التذكير بأن التواجد المسيحي بالمغرب، ارتبط أساسا بالمرحلة الاستعمارية، حيث كانت بعثات الاستكشاف تضم رجال دين من قبيل الأب شارل دوفوكو، والتي لم تكن في الغالب أهدافها تبشيرية عكس ما حصل في عدد من المستعمرات السابقة سواء في أفريقيا وأسيا.
فقد اكتشف هؤلاء المستكشفون في المغرب وفي المغاربة استثناء، جلهم عشقوا هذه التربة و أحبوا ناسها وأهلها، ومن بينهم الأب PEYRIGUERE، الذي سماه أمازيغ خنيفرة ب”le Marabout d’Elkbab، والذي خصص حياته للفئات المعوزة في منطقة الأطلس المتوسط، حيث رعى اليتامى وعالجهم وساعدهم على التعليم ومن بينهم من وصل إلى مواقع عليا في الإدارة وفي مجالات الاقتصاد والمعرفة، دون أن يحاول ربط هذا العمل الإنساني بمحاولة التأثير على معتقداتهم.
وقد خلدت الأغنية الأمازيغية الأب PEYRIGUERE بوصفه ب” الشجرة التي يستظل بها الفقراء” كما هرع كل أمازيغ منطقة لقباب، حيث دفن، إلى جنازته في شهر ابريل 1959، وأبنه شاب أمازيغي ساعتها بالقول” كل الفقراء كانوا عائلته، وكل رجال القبيلة كانوا إخوته، فليرحمه الله”.
كلنا شوق إلى سماع مداخلة سماحة الكاردينال.
ختاما، أجدد الشكر إلى كل من ساهم في تهيئ أجواء هذا اللقاء. دمنا على تعايش ووفاق ومحبة.
شكرا على حسن إصغائكم .