جلب الاستثمار الأجنبي… من يؤيده ومن يعارضه؟
بقلم محمد القاضي / فاعل حقوقي
هذا سؤال طرحته قبل بضعة أيام في إحدى تدويناتي السابقة رغبة مني في فتح نقاش شعبي مع شعب الفايسبوك حوله وتحديد مفهومه وإبراز مزاياه ومساوئه، لكن للأسف الشديد لم يحظى بالاهتمام والتفاعل الذي كنا نتوخاه، مع العلم أن الاستثمار الأجنبي له دور حاسم ومؤثر في تحديد بنيان السلم الاجتماعي والبوصلة الاقتصادية برمتهما إما نحو الإقلاع والتنمية أو النكوص والإفلاس والإنهيار.
قبل أن ندلي بدلونا في هذا الموضوع، لابد أن نستحضر بعض السياقات التاريخية من تاريخ المغرب المعاصر التي شهدت فيها السياسات العمومية المغربية توجها نحو ما أسمته بسياسة الانفتاح على اقتصاديات العالم وسياسة تحرر الدولة من تدبير المئات من القطاعات الاقتصادية والإنتاجية والخدماتية وتفويتها للقطاع الخاص إما في إطار التدبير المفوض او بيعها له أو تفويتها بصيغة أو أخرى لشركات القطاع الخاص، وذلك تحت ذريعة تخفيف أعباء ونفقات الدولة من قطاعات يمكن أن يتولى أمر تدبيرها شركات خصوصية.
وقد انطلق هذه التوجه في تدبير السياسات العمومية نحو التحرر والارتماء في أحضان الليبرالية بشكل تدريجي ابتداء من مطلع تسعينات القرن الماضي، وتحديدا بعد انهيار جدار برلين وسقوط المعسكر السوفياتي.
وكلنا نتذكر كيف تم تسليم الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء بالرباط إلى شركة “ريضال” الفرنسية على طبق من ذهب، أعتقد ربما في سنة 1994، لينطلق بعدها مسلسل الخوصصة بصيغة أو أخرى منها “اتصالات المغرب” ووكالات النقل الحضري بالمدن الرئيسية والاستراتيجية، وكلنا تابعنا كيف تكالب العديد من عمداء هذه المدن في تدمير القطاعات الحيوية والخدماتية بشكل متعمد وتآمري بتواطؤ مفضوح مع قادة بعض النقابات (ولا أقول النقابات) لأجل التسريع بالإعلان عن إفلاسها ومن ثمة خلق ذريعة لتفويتها إلى الشركات الأجنبية تحت عنوان “الاستثمار الأجنبي”.
وهكذا تم تدمير قطاع النقل الحضري بالشريط الاستراتيجي والاقتصادي للمغرب من طنجة إلى أكادير، حيث تم تسليم هذا القطاع الحيوي إلى شركة إنجليزية بجنسية إسبانية، في طنجة والرباط والدار البيضاء ومراكش وأكادير، فيما تم تسليم قطاع الماء والكهرباء بالعاصمة الاقتصادية والعاصمة الإدارية لشركات فرنسية تحت ذريعة دعم “الاستثمار الأجنبي”، فيما الشركات الوطنية يتم طحنها بطريقة أو أخرى وإقصائها كأن يضعوا أمامها شروط تعجيزية وعلى مقاس الشركات الأجنبية.
والأخطر ما في الأمر أن هذه الشركات الأجنبية التي جاءت إلى المغرب تحت عنوان “دعم الاستثمار الأجنبي” لم تجلب معها لا أموال ولا رساميل ولا عملة صعبة ولا أي شيء ، جاءت فقط بإسمها (قمقومها)، وأن كل تمويلها يتم من جيوب المواطنين ومن ميزانية المجالس التي تآمرت على طحن هذه القطاعات تلبية لإملاءات البنك الدولي ( الحبة والبارود من دار القايد).
والخطير الأخطر ما في الأمر، هو أن هذه الشركات الأجنبية تعتبر نفسها فوق القانون، ولها القرار الشبه المطلق في تنزيل صيغ وأساليب التدبير التي تتماشى وأمزجتها ومقاساتها وليس مع لغة القانون، زد على ذلك أنها غالبا ما تعمد إلى اعتماد تسعيرات (tarifs) تفوق التسعيرات المتفق عليها مع السلطات المفوّتة أو المفوّضة (بكسر الواوين) وتهريب الأموال بطريقة أو أخرى وممارسة التحايل لنهب المال العام وعدم التصريح بالأرباح الحقيقية، ويكفي لمن أراد التأكد من ذلك الرجوع إلى الإطلاع على تقارير المجلس الأعلى للحسابات ذات الصلة بهذه الشركات الانجليزية والفرنسية، وهذا يؤدي إلى شلل في ميزان الآداءات والرفع من عجزه وإبقاء الميزان التجاري في خانة السلبية.. وخلافا للامتيازات المفرطة التي تقدم على أطباق من ذهب من دماء الفقراء والبؤساء إلى هذه الشركات، فإن ذات السلطات المفوضة تتعامل مع الشركات الوطنية بنوع من الصرامة واللاتساهل وأحيانا التآمر عليها بطريقة أو أخرى.
ومعلوم أن العجز التجاري يؤدي إلى المزيد من القروض الأجنبية أي الرفع من قيمة الدين الخارجي الذي يسلب منا (أي الدين العمومي الخارجي) السيادة على قرارنا الاقتصادي والسياسي وحتى الثقافي، وهذا الأخير ( أي العجز التجاري) يؤدي إلى خنق الاقتصاد الوطني واللجوء إلى المزيد من الاقتطاعات من جيوب المطحونين والمقهورين… ونحن نعلم جيدا أن وصول الاقتصاد إلى هذا المستوى من التبعية وفقدانه لقراره السيادي، يؤدي حتما إلى بروز اضطرابات واحتقانات اجتماعية وخنق الحريات العامة، وما قانون تكميم الأفواه رقم 22.20 إلا مظهرا من مظاهر هذا التردي الخطير والنكوص الذي لا يطمئننا على مستقبلنا ومستقبل بلدنا.
فعندما نتمعن في المقتضيات التي جاء بها القانون رقم 54.05 المتعلق بالتدبير المفوض للمرافق العامة والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 5404 بتاريخ 16 مارس 2006، فإننا سنخرج بمؤاخذات عديدة أبرزها والتي تهمنا بالدرجة الأولى، وهي أن هذا القانون لا يعطي أي امتياز للمقاولة الوطنية ويتغافل الحديث عن قيمة الرأسمال الذي يمكن أن تجلبه أي شركة أجنبية التي قد تشارك في عروض المزادات الدولية ويتغافل الحديث عن أرباحها المفترضة، والأسقف المسموح لها بإخراجه (تهريبه) إلى بلدانها الأصلية كما يتغافل الكثير من الجوانب الأخرى التي قد تستغلها هذه الشركات الأجنبية في إذلال اليد العاملة المغربية وتهريب العملة وزعزعة أمن وأستقرار البلاد…ويكفي أن نستحضر في هذا السياق الرجة الاجتماعية التي أحدثتها شركة أمانديس بمدينة طنجة في سنة 2013 أو سنة 2014، والتي كادت أن تعصف باستقرار المدينة.
والخلاصة الأخيرة التي يجب أن نرسخها في أذهاننا لكي نتعامل معها على أساس هذا الاعتقاد، هي أن معظم الشركات الأجنبية الكبرى خصوصا التي تتولى تدبير قطاعات حساسة واستراتيجية ولها صلة عضوية بالسلم الاجتماعي، لابد أن تكون واجهة للاستخبارات التابعة لبلدانها الأصلية، ومن ثمة فإنها ستسعى إلى التدخل في مسائل أخرى ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى التدخل السافر للشركة الإنجليزية في مراكش المجنسة بالجنسية الإسبانية والتي تتولى تدبير قطاع النقل العمومي والسياحي بالمدينة، حيث وصلت بها الوقاحة إلى التدخل في صناعة نخب سياسية والدفع بها إلى الاستحقاقات الجماعية مقابل خدمة أجنداتها، ونفس الشيء يحدث في الدار البيضاء من طرف الشركة الفرنسية التي تدير الماء والكهرباء، وهذا وفق العديد من التقارير الصحفية.
لذلك أصبح من الضروري مراجعة منظومة الاستثمار الأجنبي ببلدنا بالشكل الذي يحمي اقتصادنا واستقرارنا وأمننا وتحييد القطاعات السيادية والقطاعات ذات الصلة بالسلم الاجتماعي من الاستثمار الأجنبي وأخص بالذكر ، النقل العمومي ، الماء والكهرباء، التعليم والصحة، وقطاعات أخرى.
.