المجتمع والأستاذ بين التبجيل والتنكيل.

فار بريس
عبد الغني العمومري
يمكنك أن تعرف نوع المجتمع من خلال معرفة الرمزية التي يحظى بها الأستاذ أو المدرس داخل هذا المجتمع، ففي المجتمعات المتقدمة التي تؤمن بالعلم والمعرفة وبالأستاذ كأداة للتقدم والتنمية، وباعتباره الوسيلة التي ينقل بها هذا المجتمع الثقافة المرغوبة والعقيدة المطلوبة إلى الأجيال والنشء، فإن هذه المجتمعات لا تتوانى أن تجعل المدرس في المكانة التي تليق به ماديا ومعنويا، ولا تفوت الفرصة إلا وتكرم المدرس وتجعل منه رمزا حضاريا والإنسان الذي يحظى بالأولوية في المجتمع، وكم رأينا في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض القنوات الرسمية، مسؤولين ومشاهير وقضاة ومحامين بل حتى رؤساء، يقبلون أيادي أساتذتهم ورؤوسهم أمام الناس وأمام الملأ وبدون خجل أو تردد، وبدون شعور بالنقص أو بالدونية، بل يعتبرون ذلك واجبا وسلوكا مطلوبا ينبغي أن يقتدي به كل إنسان ناجح، لأن الفضل في نجاحه يرجع بنسبة كبيرة للأساتذة الذين لم يبخلوا عليه بالنصح والإرشاد والتضحية والمتابعة والمساندة كي يصلوا للمكان الذي وصلوا إليه. كما أنه لا تتوانى في معاقبة كل من يشوش على هذه المكانة المرموقة التي يحظى بها مربي وباني الأجيال، ومكون الإنسان محور وجوهر الحضارة والبنيان.
وإذا كان المقام لا يناسب لذكر المكانة التي يحظى بها رجال التعليم بنوع من التفصيل في الدول المتقدمة، أذكر المكانة التي يحظى بها رجل التعليم في اليابان.
فالنظام التعليمي المنظم في اليابان له تأثيراته على كافة مناحي العملية التعليمية ومن بينها: – تطوير واختيار المعلمين بالتركيز على الكفاءات والتخصصات والخبرات بصورة دقيقة.
– المعلمون يتقاضون راتباً كبيراً بحيث لا يحتاجون إلى الانخراط في أي عمل آخر.
– المعلمون غير مسموح لهم العمل في مدرسة أخرى، وإعطاء الدروس الخصوصية.
(في اليابان لا توجد منظومة الدروس الخصوصية من الأساس).
- المعلم الذي يعمل في المدارس الصباحية غير مسموح له العمل في المدارس المسائية أو العكس.
- لكل مرحلة تعليمية ولكل صف دراسي هناك ما يسمى المعلم المسؤول، وهو الشخص الذي يبني علاقة وطيدة مع التلاميذ بصورة فردية وشخصية، وبالتالي هو الشخص الذي يتابع حضور وغياب كل طالب وكذلك التقدم الذي يحرزه أو التأخر إن حدث، بالإضافة إلى متابعة المشاكل الشخصية أكان منبعها البيت أو دون ذلك، وهو الشخص المسؤول عن التواصل مع الأهل إن احتاج الأمر. هذه المسؤوليات تجعل من المعلم المسؤول بمثابة الأب الثاني أو الأم الثانية.
- الطلبة يعتبرون المدرسة المصدر الأساسي والأهم للمعلومات والمعرفة. ولأجل هذا يركز كل طالب على دروسه ويقوم بالواجبات المدرسية داخل المدرسة نفسها.
- على كل طالب أن ينخرط في ناد رياضي أو ناديين لأن المدرسة بالنسبة للطالب لا تنحصر في الدروس العلمية فقط، ولكنها أيضاً لممارسة الرياضة والحياة الاجتماعية وغيرها، أي أن المدرسة بالنسبة للطالب هي بمثابة الأسرة الثانية.
- المواد التعليمية تركز على فكرة تعليم الطلبة كيفية التفكير وكيفية التعامل مع الأمور والمسائل بصورة فائقة الدقة، فالعامل الأساسي وراء نجاح اليابانيين هو “الدقة”، والدقة وإتقان العمل كما قال رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم “إن الله يحب إن عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، هما ما ميّز اليابان عن باقي دول العالم.
وبالنظر إلى الدول المتخلفة أو التي تزيد في التخلف، فإن مكانة رجل التعليم فيها تتجه في المنحى المعاكس، فبعدما كان المدرس يحظى بالألوية والاهتمام في الستينات والسبعينات والثمانينات، أصبحت حكومات هذه الدول تنكل بالمدرس أشد التنكيل، وتجعل منه محط استهزاء وسخرية، وأحيانا بإشاعة التهم والنكت حول الأساتذة. دوافعهم وأسبابهم في ذلك متعددة ومتنوعة، فلسان حال هذه الدول أو بالأحرى لسن مسؤوليها يقول: تعلمنا بما يكفي حتى أصابتنا التخمة.
وبمفهوم آخر أصبح التعليم يشكل وسواسا للحكومات، وسواسا فكريا وسياسيا واقتصاديا.
فعلى المستوى الفكري: أصبحت هذه الحكومات لا تريد أفكارا جديدة، بقدر ما تريد اجترار نفس الأفكار المجتمعية، بل وأحيانا النقص منها، وأصبحت البرامج التعليمية هدفها الحفظ والببغائية، وأحيانا طمس معالم التفكير والإبداع عند التلميذ (أسئلة: اختر الجواب الصحيح).
وعلى المستوى السياسي: هيمنة الجهلة على مراكز القرار، مما جعلهم ينظرون للمدرسة كأنها غير ضرورية، وأحيانا الحقد على الأستاذ وتشويه صورته، وتسخير الإعلام بمختلف أنواعه للنيل من المدرس، واستغلال جميع المناسبات لوضعه في قفص الاتهام والمجرم بدون جريمة. لسبب بسيط أنهم لا يؤمنون بالعلم ولا بالمدرسة، ولأنهم لو كانوا يؤمنون بذلك لما وصلوا للمكانة التي وصلوا إليها بالجهل وبطرق يعرفها جيدا المختصون في الميدان.
ومن ناحية أخرى يخافون من أبناء الفقراء أن يجتهدوا ويحصلون على المناصب العليا بينما يأخذ أبناءهم المراتب المتأخرة، ولذلك قسموا التعليم إلى تعليم خاص بالأغنياء يتعلمون فيه علوم التجارة والتسيير على مستوى عال، وتعليم عمومي كل إصلاح ينقصون منه حتى أصبح لا يتجاوز تدريس (بابوبي).
أما على المستوى الاقتصادي: فإن الرهان على المجتمع الأمي هو الوضعية المريحة للتجارة الفاسدة وللاقتصاد الفاسد، لأن الجاهل سهل الانخداع أما المتعلم فلا يمكنك أن تخدعه بسهولة، وبالتالي فإن المال الفاسد ينمو في البيئة الفاسدة والجاهلة.
النموذج التعليمي الناجح هو الذي يعتمد على الأستاذ وعلى البرنامج الدراسي كأداة لتنمية الفكر والمهارة وللتنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وليس لتنمية الحفظ والتقليد والاجترار والتنكيل بالمدرس.