سياسةكتاب الاراء

القاسم الانتخابي: الخطاب السياسي المغلوط

فاربريس/ محمد الصديقي – أسفي

لماذا كل هذا النقاش الحاد والاصطفافات غير المنطقية تجاه قضية القاسم الانتخابي؟
لماذا تجاوز النقاش البرلماني حدود اللياقة وحدود الإقناع السياسي إلى تبادل السباب والاتهامات بشكل صريح أو ضمني؟
لماذا لم تقم هذه الضجة من لدن عدد من الفرق البرلمانية عندما تم “إقرار” النظام الجديد للتقاعد، و نظام التعاقد في التوظيف الذي لازال يرخي بظلاله في الساحة الوطنية ويهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلد؟
لماذا لم تقم هذه القيامة بعد التطبيع مع الكيان الصهيوني سياسيا واقتصاديا وتربويا؟
لماذا لم تقم هذه الضجة عندما توفي العمال غرقا في طنجة؟
هل القاسم الانتخابي أهم وأنفع من القضايا السابقة؟ هل سيغير من المستوى المتدني للتعاطي السياسي مع قضايا الوطن والأمة، والتدبير الاقتصادي لخيرات البلاد وتنميتها؟ هل سيحقق الاستقرار الاجتماعي وينزع فتيل الاحتقان الذي يسود الساعة الاجتماعية؟
بمعنى مجمل: هل تعد مسألة القاسم الانتخابي أولوية سياسية في الوضع الراهن؟ وهل تستحق كل هذا النقاش فعلا؟
أفرزت الساحة الوطنية ثلاثة آراء كبرى تجاه هذه المسألة:
1 – رأي يرى أن إقرار القاسم الانتخابي الحالي سيكرس بلقنة البرلمان والحكومة، وستعاني المؤسستان من الهشاشة والتهديد بالانقلابات البرلمانية والحكومية، وتكريس سيادة الدولة في ضمان استمرارية أي فريق حاكم، ناهيك عن صعوبة تحقيق التوافق حول قضايا تدبير الشأن العام، وسيتكرس بشكل كبير الريع ومنطق الامتيازات لضمان الاستمرارية في المؤسسة الحكومية على الخصوص، وسيكون للأحزاب الصغيرة قدرة على ابتزاز الأخرى الكبيرة لضمان تحقيق الأغلبية، وهلما جرا من الأمور التي قد تقود إلى مزيد من تمييع الحقل السياسي ومعه المؤسسات ذات الصلة؛
2 – رأي يعتبر أن القاسم الانتخابي خطوة إيجابية لأنه سيقلص من هيمنة أحزاب على المشهد السياسي، وسيحمي استمرار الأحزاب السياسية “التاريخية” والصغيرة التي لها الحق في التواجد في المؤسسات والتعبير عن رأيها، فكونها أحزاب صغيرة لا يعني أنها لا تملك القدرة على المساهمة في إغناء النقاش الوطني واقتراح الحلول للقضايا الشائكة. هذا، ويعكس تواجد أغلب الأحزاب في البرلمان مستوى معينا من الديمقراطية تعكس – حسب هذا الرأي – طبيعة الاختلاف المعتمل في المجتمع وغناه.
3 – رأي ثالث يرى أن مسألة القاسم الانتخابي هامشية مقارنة مع قضايا سياسية جوهرية، وأن تغيير القاسم الانتخابي لن يغير من منطق الحكم ومؤسساته، لأنه في نهاية المطاف بعيد، كما هو الأمر حاليا، عن إحداث التغيير المنشود في جوهر الممارسة السياسة في البلاد، وقد يساهم في مزيد من تمييع المشهد السياسي، ويحول الممارسة السياسية إلى سوق يتكرس فيها منطق المال الحرام. ويقترح أصحاب هذا الرأي حزمة من الاقتراحات التي يرونها قمينة بإعادة الاعتبار للممارسة السياسية ومعها الخطاب السياسي؛ ونجملها في: تنقية الأجواء السياسية من الاحتقان بإطلاق سراح المعتقلين والصحفيين، وحل النزاعات الكبرى التي تنخر العديد من القطاعات الاقتصادية والخِدْمِية، وإعطاء منطق جديد لتمثيلية النساء، وتحويل اللائحة الإقليمية إلى لائحة جهوية لإعطاء الاعتبار للتنافسية بمرجعية البرامج المقترحة، ومن شأن ذلك الرفع من منسوب الثقة في الممارسة السياسية وتشجيع المواطنين على المشاركة في العمل السياسي انخراطا وتصويتا.
هذا الرأي الأخير لم يحظ بالاهتمام الكبير في التداول لأن أغلب الأحزاب اصطفت إما مع القاسم الانتخابي أو ضده، في حين لم يتم فتح النقاش حول إمكانات أخرى غير ما هو مختَلف حوله.
المتتبع للجدال السياسي القائم في بلدنا حول هذه المسألة يفهم جيدا خلفيات هذا النقاش وهذا والانقسام، ففي الوقت الذي يدافع فيه حزب العدالة والتنمية عن الرأي الأول رافضا القاسم الانتخابي الجديد لضمان هيمنته على المؤسسات المنتخبة، تتضامن مجموعة من الأحزاب الحكومية وغير الحكومية، اليسارية واليمينية من أجل قبول القاسم الانتخابي الجديد لوضع حد لهيمنة الحزب الحاكم وتقليم أظافره، فيما تتبنى أحزاب فيدرالية اليسار الديمقراطي الرأي الأخير تماشيا مع شعاراتها السياسية ولا سيما شعار الانتقال إلى ملكية برلمانية بما يقتضيه من تعديلات أساس في الدستور.
وبعيدا عن مناقشة النوايا، فالكل يعلم أن كل هذه الزوبعة تكشف أمورا أربعة على الأقل:
1 – تقليص حجم حزب العدالة والتنمية في المؤسسات وفي الساحتين السياسية والاجتماعية هدف مشترك بين الدولة ومجموعة من الأحزاب المنافسة؛
2 – رغبة الدولة في استمرار تكريس سلطتها على مناحي الحياة في البلد دون أي منافسة قد تمس “شرعية” اتخاذ القرارين السياسي والاقتصادي و”مشروعيتهما”؛
3 – ضعف الأحزاب السياسية في التأثير في الدولة كما في المجتمع خطابا وممارسة؛
4 – لا مبالاة المجتمع بالعمل السياسي وخطابه، وانخفاض منسوب الوعي السياسي للمجتمع بما يؤهله ليكون رقما حاسما في تعطيل مناورات بعض الأحزاب والدولة.
مع كل ذلك يبقى السؤال المؤرق، للمهتمين على الخصوص، ذاك المتعلق بكيفية جعل المشاركة السياسية والانتخابية للمواطن ذات فعالية على حياته المباشرة، وكيف يمكن للتصويت أن يكون حاسما في الاختيارات السياسية والاقتصادية للمواطن.
قد يكون من الصعب تقديم جواب سحري لذلك في هذه المقالة، إلا من باب إعلان المبادئ العامة التي قد لا يُختلَف حولها كإقرار ديمقراطية حقيقة، حل المشاكل الاجتماعية، حياد الدولة في التنافسية الانتخابية، توسيع سلطات الحكومة للتمكن من تنفيذ برامجها، القطع مع التكنوقراط والوزارات السيادية… وهي أمور تبدو معقولة لكن آليات أجرأتها تبدو صعبة إن لم أقل مستحيلة. وما أود تقديمه هنا هو مقترح في تقنية الانتخابات وطريقتها دون أن أخوض فيما يفيد الشروط التي يجب توفيرها قبل أي عملية انتخابية، ذلك أن توفير الشروط، على كل حال، يبقى أمرا ضروريا لضمان نزاهة العملية، والمشاركة الواسعة فيها. لكن ما يهمني هنا هو كيف يمكن تقليص خروقات العملية الانتخابية؟ وتقريبها من النزاهة؟ وإعطاء الاعتبار للبرامج الحزبية أكثر من الأشخاص المرشحين؟ وما السبيل لجعل التمثيلية الحزبية تعكس من جهة نسبة المشاركة وقيمة البرنامج الانتخابي؟ كيف يمكن إجبار الأحزاب السياسية على وضع برامج معقولة ودقيقة قابلة للتنفيذ بعيدا عن المزايدات الأيديولوجية والدوغمائية والاستنساخ… وتمكن من إعطاء معنى للحكامة المجتمعية؟
ألا يمكن القيام بحملة انتخابية للحزب والبرنامج دون أشخاص؟ لماذا لا يعرض كل حزب برنامجه فقط؟ ويتم التصويت بالرموز على هذا البرنامج، وبعد النتائج النهائية التي ستعلِن عن نسبة الأصوات التي حصل عليها كل حزب يختار الحزب من بين مناضليه من يمثله بحسب النسبة التي حصل عليها، وعندها سيكون له ولأجهزته فقط القرار باختيار الكفاءات التي يراها مناسبة لتمثيله محليا وجهويا ووطنيا في كل الأجهزة، وحسب اللجن التي تسمح له تمثيليته بالتواجد فيها. وبمعنى آخر، سيؤجل كل حزب اختيار مرشحيه إلى غاية إعلان النسبة التي حصل عليها من الأصوات، بعدها يعلن عن ممثليه في المجالس والبرلمان.
ألن يقلص ذلك من استشراء شراء الذمم؟ ومن سيغامر بماله وهو غير متيقن من مدى اختياره عضوا ممثِلاً لحزبه؟ ألن يقطع ذلك مع “مول الشكارة” والتيكنوقراط؟ ألن يحقق انسجاما في نسبة تمثيلية الحزب في المجالس والبرلمان والحكومة؟ أي أن الفريق الذي يمثل أغلبية في البرلمان سيشكل الأغلبية في كل المجالس المحلية والجهوية؟ وسنضمن انعدام الهجنة في التنسيق والتناقض بين التشكيلات المسيرة للمجالس من منطقة إلى أخرى.
هذه، فقط، خاطرة سياسية أضعها لعلها تثير اهتمام بعض من يقلقهم سؤال الممارسة السياسية وانسجامها في بلادنا. ومن يدري؟ فبتطويرها وتدقيقها قد تشكل نموذجا مغربيا صرفا.

زر الذهاب إلى الأعلى